مقالات / التساهل في الفتوى

التساهل في الفتوى

تاريخ النشر : 8 رمضان 1442 هـ - الموافق 20 ابريل 2021 م | المشاهدات : 1102
مشاركة هذه المادة ×
"التساهل في الفتوى"

مشاركة لوسائل التواصل الاجتماعي

نسخ الرابط
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
يقول الإمام أحمد رحمه الله-كما في إبطال الحيل لابن بطة (ص: 25)-: «لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتوى حتى يكون فيه خمس خصال:
الأولى: أن يكون له نية؛ فإنه إن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
الثانية: أن يكون عليه حلم، ووقار، وسكينة.
الثالثة: أن يكون قويًّا على ما هو فيه، وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس.
الخامسة: معرفة الناس».
قال الإمام ابن بطة رحمه الله معلقًا: «فأقول أنا -والله العالم-: لو أن رجلاً عاقلاً أنعم نظره وميز فكره، وسما بطرفه، واستقصى بجهده طالبًا خصلة واحدة في أحد من فقهاء وقتنا والمتصدرين للفتوى أخشى أن لا يجدها».
والفتوى بغير علم في هذا الزمان مما عمت به البلوى، حتى صار حالهم يبكي المتأخرين كما أبكى المتقدمين، قال الإمام مالك رحمه الله -كما في جامع بيان العلم لابن عبدالبر (2410)-: «دخل رجل على ربيعة بن عبدالرحمن فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، ولَبَعْضُ من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق».
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (4: 227): «قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعةُ زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا، وَتَوَثُّبُهُ عليها، ومدُّ باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب ... وهذا الضرب إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل، وبالمناصب لا بالأهلية ... فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له من فتيا، أو قضاء، أو تدريس، استحق اسم الذم، ولم يحلَّ قبولُ فتياهُ، ولا قضائهِ، هذا حكم دين الإسلام وإن رغمت أنوف».
وقد كان السلف الصالح رحمهم الله -وهم أهل العلم والتقوى- يعظمون أمر الفتيا ويتدافعونها، هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، قال الإمام النووي رحمه الله في المجموع (1: 40): «اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل؛ لأن المفتى وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرض للخطأ، ولهذا قالوا: المفتى موقع عن الله تعالى.
وروينا عن ابن المنكدر قال: العالم بين الله تعالى وخلقه فينظر كيف يدخل بينهم ...
وعن عبدالرحمن ابن أبي ليلى: أدركت مئةً وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله rيُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجِعَ إلى الأول.  
وفي رواية: ما منهم من يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتَى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفُتيا.
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: من أفتى في كل ما يُسأل فهو مجنون.
وعن الشعبي، والحسن، وأبي حُصَين التابعِيَّيْن قالوا: إن أحدكم ليُفتي في المسألة، ولو وَرَدَت على عمر بن الخطاب tلجمع لها أهل بدر.
وعن عطاء بن السائب: أدركتُ أقوامًا يُسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يَرْعَدُ.
وعن ابن عباس، ومحمد بن عجلان: إذا أَغْفَلَ العالِمُ لا أدري أصيبت مقاتله.
وعن سفيان بن عيينة، وسحنون: أجسرُ الناسِ على الفُتيا أقَلُّهم عِلمًا.
وعن الشافعي، وقد سُئِل عن مسألةٍ فلم يُجِب، فَقِيلَ له، فقال: حتى أدري أنَّ الفضلَ في السكوتِ، أو في الجواب.
وعن الأثرم: سمعتُ أحمدَ بنَ حنبل يُكثِر أن يقول: لا أدري، وذلك فيما عَرَفَ الأقاويلَ فيه.
وعن الهيثم بن جميلٍ: شهدتُ مالكًا سُئِلَ عن ثمانٍ وأربعينَ مسألةٍ، فقال في ثِنتَين وثَلاثين منها: لا أدري.
وعن مالكٍ أيضًا أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يُجيب في واحدةٍ منها، وكان يقول: مَن أجاب في مسألةٍ فينبغي قبلَ الجواب أن يعرِضَ نفسَه على الجنة والنار، وكيف خَلاصُهُ، ثُمَّ يُجيب.
وسئل عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألةٌ خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ.
وقال الشافعي: ما رأيتُ أحدًا جمعَ الله تعالى فيه من آلةِ الفُتيا ما جَمَع في ابن عيينة أسكتَ منهُ على الفُتيا.
وقال أبو حنيفة: لولا الفَرَق -وهو الخوف- مِن الله تعالى أن يَضيعَ العلم؛ ما أفتيت، يكون لهم المَهْنأ، وعلَيَّ الوِزرُ».
قال العلامة المناوي رحمه الله في فيض القدير (1: 158) بعد ما ذكر بعض هذه الآثار: «وبما تقرّر عُلِمَ أنه يَحرُم على المفتي التساهل».
وقال النووي رحمه الله في المجموع (1: 46): «يحرم التساهل في الفتوى ومن عُرِف به حرم استفتاؤه».
وقال ابن الصلاح رحمه الله في أدب المفتي والمستفتي (1:  46): «لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى, ومن عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى, وذلك قد يكون بأن لا يَتثبَّت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر, وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعةٌ, والإبطاءَ عجزٌ ومنقصة، وذلك جهلٌ، ولأن يُبطئ ولا يخطئ, أجمل به من أن يَعْجَلَ فيضلَّ ويَضِلَّ».
 
المادة التالية

التعليقات (0)

×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف